فصل: سئل:عن حج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان مفردًا‏؟‏ أو قارنا‏؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن حج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان مفردًا‏؟‏ أو قارنا‏؟‏ أو متمتعًا‏؟‏ وأيما أفضل لمن يحج، فقد أكثر الناس القول، وأطالوا وزادوا ونقصوا، والقصد كشف الحق عن هذه الأحوال، وقول بعض الناس إن أحدًا من الصحابة أتي بعمرة من مكة، والحديث الذي رووه‏:‏ ‏(‏أن عمرة في رمضان تقوم كذا وكذا حجة‏)‏‏.‏ هل هو صحيح‏؟‏ أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد رب العالمين، أما حج النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أنه كان قارنًا، قرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي ولم يطف بالبيت، وبين الصفا والمروة إلا طوافا واحدًا، حين قدم‏.‏ لكنه طاف طواف الإفاضة مع هذين الطوافين‏.‏

وهذا الذي ذكرناه هو الصواب المحقق عند أهل المعرفة بالأحاديث،الذين جمعوا طرقها، وعرفوا مقصدها، وقد جمع أبو محمد بن حزم في حجة الوداع كتابا جيدًا في هذا الباب

وقال الإمام أحمد‏:‏ لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان /قارنًا، والتمتع أحب إلى؛ لأنه آخر الأمرين‏.‏ يريد به قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن طاف وسعي، وأمر أصحابه بالتحلل، فشق عليهم، فقال‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏ وهذا إنما يقتضي أنه كان متمتعًا بدون سوق الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد ساق الهدي؛ ولهذا قال أحمد في رواية المروزي‏:‏ إذا ساق الهدي فالقران أفضل، وذلك لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا الذي ذكرناه من أنه حج قارنا يتبين لمن تدبر الأحاديث، وفهم مضمونها، وبسط ذلك في هذا الموضع غير ممكن، لكن نذكر نكتًا مختصرة‏:‏

منها‏:‏ أن الذين نقلوا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفظ تلبيته، ولفظه في خبره عن نفسه، وفيما يخبر به عن أمر الله له‏:‏ إنما ذكروا القِران؛ كقول أنس في الصحيحين‏:‏ سمعته يقول‏:‏ ‏(‏لبيك عمرة وحجة‏)‏ وكان تحت ناقته‏.‏ وكحديث عمر الذي في الصحيح حيث قال‏:‏ ‏(‏أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك، وقال‏:‏ قل‏:‏ عمرة في حجة‏)‏‏.‏ وقوله في حديث البراء بن عازب‏:‏ ‏(‏فإني سقت الهدي وقرنت‏)‏‏.‏

والذين قالوا‏:‏ تمتع بالعمرة إلى الحج، لم تزل قلوبهم على غير /القران، فإن القران كان عندهم داخلا في مسمي التمتع بالعمرة إلى الحج كما جاء مفسرًا في الصحيحين، من أن عثمان كان ينهى عن المتعة، وكان على يأمر بها، فلما رأي ذلك على أهل بهما جميعًا‏.‏

ولهذا وجب عند الأئمة على القارن الهدي بقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ ‏.‏ وذلك أن مقصود حقيقة التمتع أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج، ويحج من عامه، فيترفه بسقوط أحد السفرين، قد أحل من عمرته، ثم أحرم بالحج، أو أحرم بالحج مع العمرة، أو أدخل الحج على العمرة، فأتي بالعمرة والحج جميعًا في أشهر الحج من غير سفر بينهما، فيترفه بسقوط أحد السفرين‏.‏ فهذا كله داخل في مسمي التمتع، مع أن هؤلاء لم ينقلوا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وكذلك الذين قالوا‏:‏ أفرد الحج، مع أن هذا اللفظ يراد به الرد على من قال‏:‏ تمتع بالعمرة إلى الحج، وحل من إحرامه، وعلى من قال‏:‏ إنه طاف طوافين، وسعي سعيين، فإن أصحابه حلوا من إحرامهم حيث لم يسوقوا الهدي، فبقوا محرمين كما يبقي مفردًا بحج ولم يأتوا بزيادة على عمل المفرد‏.‏ فبين هؤلاء أنه لم يفعل إلا أفعال الحج، لم يحل من إحرامه ولا زاد عليها، وتبين بذلك أنه قد اعتمر أربعًا؛ إحداهن عمرة مع حجته، ولا نزاع بين أهل العلم أنه لم يعتمر/ بعد الحجة لا هو ولا أحد ممن حج معه حجة الوداع، إلا عائشة خاصة، فإنه أعمرها مع أخيها عبد الرحمن، لأجل حيضها الذي حاضته وبنيت بعد ذلك مساجد، فسميت ‏[‏مساجد عائشة‏]‏ ، فإنها أحرمت بالعمرة من هناك، فإنه أدني الحل إلى مكة؛ إذ ذاك الجانب من الحرم أقرب جوانبه من مكة‏.‏ وكان قد اعتمر مع حجته ولم يعتمر بعدها، فتبين أن عمرته كانت فيها قبلها، فيكون متمتعًا‏.‏

يوضح ذلك أن عامة الذين روي عنهم أنه أفرد الحج، كعائشة، وابن عمر‏.‏ روي عنهم أنه تمتع بالعمرة إلى الحج، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة وغيرهما، وقد تبين أن من قال‏:‏ تمتع بالعمرة إلى الحج، وأنه حل من إحرامه، كما زعم ذلك بعض أصحاب أحمد، كالقاضي، وغيره،وزعموا أنه كان مخصوصًا بذلك، دون من تمتع وساق الهدي ـ فهذا القول خطأ‏.‏

وكذلك من يظن من أصحاب مالك والشافعي أنه أفرد الحج، واعتمر عقب ذلك، فهذا القول خطأ، وكلا القولين مخالف لإجماع أهل العلم بالآثار‏.‏

وكذلك من زعم أنه طاف طوافين، وسعي سعيين، كما يختار ذلك أصحاب أبي حنيفة، وأنه خلاف الأحاديث الصحيحة، التي /تبين أنه لم يطف بالبيت والصفا والمروة إلا مرة واحدة‏.‏

وأما من قال من أصحاب أحمد‏:‏ إنه تمتع ولم يحل من إحرامه؛ لأجل سوق الهدي، كما يختاره أبو محمد وغيره، فالتمتع على المشهور عندهم‏:‏ السعي بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة للحج، كما سعي أولا للعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسع بعد الإفاضة، فكيف يكون متمتعًا على هذا القول‏؟‏ لكن عن أحمد رواية أخري، أن المتمتع لا يحتاج إلى سعي ثان، بل يكفيه السعي الأول، كما يكفي المفرد، وكما يكفي القارن‏.‏

وسبب اختلاف الروايتين عن أحمد‏:‏ أن في حديث عامر‏:‏ أنهم لم يطوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، إلا الطواف الأول،وفي حديث عائشة‏:‏ أنهم طافوا بعد التعريف، فإنه على هذه الرواية لا يتوجه هذا الإلزام؛لكن لا يبقي بين القارن وبين المتمتع الذي ساق الهدي ـ فلم يحل لأجله ـ فرق، إلا أن القارن أحرم بالحج قبل الطواف والسعي، والمتمتع أحرم بالحج بعد ذلك، فإذا كان إدخاله الحج عليها بعد طوافه وسعيه كإدخاله قبل طوافه وسعيه لا يوجب عليه سعيا ثانيا، لم يكن بين القارن والمتمتع الذي لم يحل فرق أصلا‏.‏

وعلى هذا، فإحرامه بالحج قبل أن يطوف ويسعي، أفضل من أن /يحرم به بعد الطواف والسعي، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم بهما جميعا، وقال‏:‏ ‏(‏لبيك عمرة وحجًا‏)‏، ومن لم يحرم بالحج إلا بعد الطواف والسعي لا يقول هذا‏.‏

ومن قال من أصحاب مالك والشافعي‏:‏ أفرد الحج ولم يعتمر مع حجته، فالأحاديث الصحيحة ـ التي تبين أنه اعتمر مع حجته وأنه اعتمر أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجِعْرَانة، والعمرة التي مع حجته ـ ترد هذا القول‏.‏ وكذلك قول حفصة في الحديث المتفق عليه‏:‏ ما بال الناس حلو‏.‏ ولم تحل من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني لَبَّدت رأسي، وقَلَّدت هديي، فلا أحل حتى أنحر‏)‏‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ أيما أفضل ‏؟‏

فالتحقيق في هذه المسألة‏:‏ أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران، والتمتع الخاص بسفرة واحدة وقد نص على ذلك أحمد وأبو حنيفة، مع مالك، والشافعي، وغيرهم‏.‏ وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر‏.‏ وكان عمر يختاره للناس وكذلك على ـ رضي الله عنه ـ وقال عمر وعلى في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏196‏]‏ قالا‏:‏ إتمامهما أن تهل بهما من دويرة أهلك‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها‏:‏ ‏(‏أجرك على قدر /نصبك‏)‏‏.‏ وإذارجع الحاج إلى دويرة أهله، فأنشأ منها العمرة، أو اعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج، أو اعتمر في أشهره، ورجع إلى أهله ثم حج، فهنا قد أتي بكل واحد من النسكين من دويرة أهله‏.‏ وهذا أتي بهما على الكمال، فهو أفضل من غيره‏.‏

وأما إذا أفرد الحج واعتمر عقب ذلك من أدني الحل، فهذا الإفراد لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه، بل ولا غيرهم‏.‏ كيف يكون هو الأفضل مما فعلوه معه بأمره‏؟‏ بل لم يعرف أن أحدًا اعتمر من مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة، لا في حجة الوداع، ولا قبلها، ولا بعدها، بل هذه العمرة لا تجزئ عن عمرة الإسلام في إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏ وعند بعض أهل العلم أنها متعة‏.‏

وتكره العمرة في ذي الحجة عند طائفة من أهل العلم،مع أن عائشة كانت إذا حجت صبرت حتى يدخل المحرم، ثم تحرم من الجحفة فلم تكن تعتمر من أدني الحل، ولا في ذي الحجة‏.‏

وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، وقدم مكة في أشهر الحج، ولم يسق الهدي‏.‏ فالتمتع أفضل له، من أن يحج ويعتمر بعد ذلك من الحل؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم /الذين حجوا معه ولم يسوقوا الهدي، أمرهم جميعهم أن يحجوا هكذا‏:‏ أمرهم إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها متعة، فلما كان يوم التروية أمرهم أنم يحرموا بالحج، وهذا متواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بذلك، وحجوا معه كذلك‏.‏ ومعلوم أنهم أفضل الأمة بعده، ولا حجة تكون أفضل من حجة أفضل الأمة، مع أفضل الخلق بأمره، فكيف يكون حج من حج مفردًا، واعتمر عقب ذلك، أو قارنًا ولم يسق الهدي أفضل من حج هؤلاء معه بأمره، وكيف ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول وأمره أبلغ من فعله‏؟‏‏!‏

وأيضًا، فإن من يحرم بالعمرة قد نوي الحج، فإنه ينوي التمتع بالعمرة إلى الحج، كما ينوي المغتسل إذا بدأ بالتوضؤ أنه يتوضأ الوضوء الذي هو بعض الغسل، فيكون تحريمان وتحليلان، كما للمفرد تحليلان وتحريمان، فيكون له هدي، كما للقارن هدي، والهدي هدي نسك، لا هدي جبران، فإن هدي الجبران ـ الذي يكون لترك واجب، أو فعل محرم ـ لا يحل سببه إلا مع العذر‏.‏ فليس له أن يترك شيئا من واجبات الحج بلا عذر، أو يفعل شيئا من محظوراته بلا عذر، ويأتي بدم‏.‏ وهذا له أن يتمتع بلا عذر، ويأتي بالهدي، فعلم أنه دم نسك‏.‏ وقد ثبت بالسنة أنه يأكل، كما أكل /النبي صلى الله عليه وسلم من هديه، وقد كان قارنًا، وكما ذبح عن نسائه البقرة، وأطعمهن من ذلك، وكن متمتعات‏.‏

وأيضًا، فلمن يأتي بالعبادتين‏:‏ إذا كانتا من جنس يجمع بينهما، أن يبدأ بالصغري على الكبري، كما يتوضأ المغتسل، ثم يتم غسله، وكما أمره بمثل ذلك في غسل الميت، فإذا اعتمر ثم أتي بالحج كان موافقا لهذا، بخلاف من حج فإنه أتي بالغاية‏.‏ فإذا اعتمر عقب ذلك لم يكن في عمرته عمل زائد‏.‏

وإذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز ذلك بالاتفاق؛ لأنه التزم أكثر مما كان عليه‏.‏

واما إذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز على الصحيح لأنه لا يلتزم زيادة شيء، وإنما جوزه أبوحنيفة بناء على أصله، في أن عمل القارن فيه زيادة على عمل المفرد‏.‏

ومن سافر سفرة واحدة واعتمر فيها، ثم أراد أن يسافر أخرى للحج، فتمتعه أيضا أفضل له من الحج، فإن كثيرًا من الصحابة الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قد اعتمروا قبل ذلك، ومع هذا فأمرهم بالتمتع، لم يأمرهم بالإفراد، ولأن هذا يجمع بين عمرتين وحجة وهدي، وهذا أفضل من عمرة وحجة‏.‏

وكذلك لو تمتع ثم سافر من دويرة أهله للمتعة، فهذا أفضل من سفرة بعمرة، وسفرة بحجة مفردة، وهذا المفرد أفضل من سفرة واحدة يتمتع فيها‏.‏

وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقران أفضل، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قرن، وساق الهدي‏.‏

ومن قــال‏:‏ إنـه مـع سوق الهـدي يكون التمتـع أفضـل له‏.‏ قيل له‏:‏ مع أن هذا مخالف للسنة إذا أحرم قبل الطواف والسعي كان قد تقدم إحرامه، ووقع الطواف والسعي عن الحج والعمرة، وإذا أحرم بعدهما لم يكن الطواف والسعي واقعًا إلا عن العمرة‏.‏ ووقوع الأفعال عن حج مع عمرة خير من وقوعها عن عمرة لا يتحلل فيها إلى أن يحج، لكنه قد يقول‏:‏ إذا تأخر إحرامه بالحج لزمه سعي ثان، وهذا زيادة عمل، لكن هذا فيه نزاع كما تقدم‏.‏

وليس له أن يحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لتمتعت مع سوق الهدي، بل قال‏:‏ ‏(‏لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة‏)‏‏.‏فجعل المطلوب متعة بلا سوق هدي، وهذا /دليل ثان على أن من ساق الهدي لا يتمتع، بل يقرن‏.‏ وإذا كان القران والتمتع مع سوق الهدي سواء، ارتفع النزاع‏.‏

فإن قيل‏:‏ أيما أفضل أن يسوق الهدي ويقرن، أو أن يتمتع بلا سوق هدي، ويحل من إحرامه‏؟‏

قيل‏:‏ هذا موضع الاجتهاد، فإنه قد تعارض دليلان شرعيان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قرن وساق الهدي في حجة الوداع، ولم يكن الله ليختار لنبيه المفضول دون الأفضل، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ‏.‏

والثاني‏:‏ أن قوله هذا، يقتضي أنه لو كان ذلك الحال هو وقت إحرامه، لكان أحرم بعمرة، ولم يسق الهدي بقوله‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمري ما استدبرت‏)‏، فالذي استدبره هو الذي فعله ومضي فصار خلفه، والذي يستقبله هو الذي لم يفعله بعد، بل هو أمامه، فتبين أنه لو كان مستقبلا لما استبدره من أمره ـ وهو الإحرام ـ لأحرم بالعمرة دون هدي، وهو لا يختار أن ينتقل من الأفضل إلى المفضول، بل إنما يختار الأفضل‏.‏ وذلك يدل على أنه تبين له حينئذ أن التمتع بلا هدي أفضل له‏.‏

ولكن من نصر الأول يجيب عن هذا بأنه لم يقل هذا لأجل أن /الذي فعله مفضول، بل لأن أصحابه شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه محرمًا، فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أمروا به عن انشراح وموافقة، وقد ينتقل من الأفضل إلى المفضول لما فيه من الموافقة، وائتلاف القلوب، كما قال لعائشة‏:‏ ‏(‏لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولجعلت لهابابين‏)‏‏.‏ فهنا ترك ما هو الأولي؛ لأجل الموافقة والتاليف الذي هو الأدني من هذا الأولي، فكذلك اختار المتعة بلا هدي‏.‏

وعلى هذا التقدير، فيكون الله قد جمع له بين أن فعل الأفضل وبين أن أعطاه بما يراه من الموافقة لهم ما في ذلك من الفضل، فاجتمع له الأجران، وهذا هو اللائق بحاله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

يبين ذلك أن سوق الهدي أفضل من ترك سوقه، وقد ساق مائة بدنة، فكيف يكون ترك ذلك أفضل في نفسه بمجرد التحلل والإحرام ثانيا، وسوق الهدي فيه من تعظيم شعائر الله ما ليس في تكرر التحلل والتحريم‏.‏

يبين ذلك أن المتمتع إذا ساق الهدي فينبغي أن يكون أفضل من جميع من لم يسق، والقارن الذي ساق الهدي أفضل منهما‏.‏

وأيضًا، فإن القارن والمتمتع عليه هدي، ومعلوم أن الهدي الذي يسوقه /من الحل أفضل باتفاق المسلمين، مما يشتريه من الحرم، بل في أحد قولي العلماء‏:‏ لا يكون هديا إلا بما أهدي من الحل إلى الحرم‏.‏

وحينئذ، فسوقه من الميقات أفضل من سوقه من أدني الحل، فكيف يجعل الهدي الذي لم يسق أفضل مما سيق، فهذا وغيره مما يبين أن سوق الهدي مع التمتع والقران أفضل من تمتع لا سوق فيه‏.‏

وأما سؤال السائل عن بعض الصحابة‏:‏ هل اعتمر من مكة‏؟‏ فلم يعتمر أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلا عائشة خاصة، وعائشة نفسها كانت إذا حجت تمكث إلى أن يهل المحرم، ثم تخرج إلى الجحفة فتحرم منها بعمرة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عمرة في رمضان تعدل حجة‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏تعدل حجة معي‏)‏، وفي رواية أنه قال‏:‏ ‏(‏الحج من سبيل الله‏)‏، فبين لها أن اعتمارها في رمضان تقوم مقام الحجة التي تخلفت عنها، والحجة كانت من المدينة، والعمرة كانت من المدينة، وذلك لأن شهر رمضان هو شهر الصيام، وهو قبل أشهر الحج‏.‏

ومن حج من عامه كان أفضل من المتمتع، والمتمتع لابد أن يعتمر في أشهر الحج، وقد كان يمكنه أن يحرم بالحج، فلما عدل عن الإحرام /بالحج إلى الإحرام بالعمرة ترفه بسقوط أحد السفرين، فصار الهدي قائمًا مقام هذا الترفه‏.‏

ولهذا ظن بعض الفقهاء أن هدي المتمتع هدي جُبْران، ومنعوه من الأكل منه، وجعلوا وجوب الهدي في المتمتع دليلا على أنه مرجوح، فإن النسك السالم عن جبران أفضل من النسك المجبور‏.‏

فقال لهم الآخرون‏:‏ دم الجبران لا يجوز للرجل أن يفعل سببه بغير عذر، وهنا يجوز التمتع من غير حاجة، فامتنع أن يكون هذا دم جبران‏.‏ نعم، قد يقال‏:‏ التمتع رخصة، والرخصة قد تكون أفضل، كما أن القصر أفضل من التربيع عند العلماء بالسنة المتواترة، واتفاق السلف، وكذلك ‏[‏الفطر، والمسح‏]‏ على أن أظهر قولي العلماء، فإن الفطر هو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وتنازع العلماء في وجوبه، وفي إجزاء الصوم في السفر، فذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الصائم في السفر عليه القضاء، واتفق المسلمون على أن الفطر في السفر جائز؛ لأنه كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق المسلمون على جوازه وهو أفضل، فما تنازعوا في جوازه، مع أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ليس من البر الصيام في السفر‏)‏، وثبت في صحيح مسلم، أن حمزة /بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني رجل أكثر الصيام، أفأصوم في السفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس‏)‏‏.‏ فحسن الفطر، ورفع البأس عن الصوم‏.‏

وهكذا ‏[‏المسح على الخفين‏]‏ ، فإنه لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لبس الخفين على طهارة ثم أحدث أنه لينزعهماوليغسل رجليه، بل كان ليمسح عليهما، وهذا مورد النزاع، فأما إذا لم يكن عليه خفان ففرضه الغسل، ولا ليشرع له أن ليلبس الخفين لأجل المسح، بل صورة المسألة إذا لبسهما لحاجته، فهل الأفضل أن ليمسح عليهما، أو ليخلعهما، أو كلاهما على السواء‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏

والصواب‏:‏ أن المسح أفضل، اتباعًا للسنة‏.‏

وأيضًا، فالذي يحج متمتعًا فعل ما يشرع باتفاق العلماء المعروفين، وأما غير المتمتع ففي حجه نزاع، فقد ثبت عن ابن عباس، وطائفة من السلف أن التمتع واجب، وأن كل من طاف وسعي ولم يكن معه هدي، فإنه يحل من إحرامه، سواء قصد التحلل أو لم يقصده، وليس لأحد عند هؤلاء أن يحج إلا متمتعًا، وهذا مذهب ابن حزم، وغيره من أهل الظاهر‏.‏ وهو مذهب الشيعة أيضًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أصحابه في حجة الوداع، فإذا كان التمتع /مختلفًا في وجوبه متفقًا على جوازه، وغيره ليس بواجب، ولم يتفق على جوازه، كان الحج الذي اتفق على جوازه أولي‏.‏

ولا يعارض هذا أن بعض المتقدمين كان ينهي عن المتعة، وكان بعض الولاة يضرب عليها، فعلماء أصحاب هذا القول قد قيل‏:‏ إنهم لم يكونوا يحرمون المتعة، بل كانوا يختارون أن يعتمر الناس في غير أشهر الحج، كي لا يزال البيت معمورًا بالحجاج والعمار‏.‏ ومن قدر أنه نهي عن ذلك نهي تحريم، فهذا قول مخالف للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع مخالفته لكتاب الله، فلا يلتفت إليه‏.‏

وأما تنازع العلماء في جواز فسخ المفرد، والقارن، وانتقالهما إلى التمتع‏.‏ فمن العلماء من قال‏:‏ إن ذلك منسوخ، وإن ذلك كان مخصوصًا بالذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال بعضهم‏:‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلمهم جواز العمرة في أشهر الحج‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هذا قول ضعيف جدًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في أشهر الحج غير مرة، بل عمره كانت في أشهر الحج‏:‏ عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة، وعمرة القضاء في العام القابل كانت في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة، أما كان في هذا ما يبين جواز الاعتمار في أشهر الحج‏؟‏‏!‏

وأيضًا، فقد ثبت في الصحيحين أنهم لما كانوا بذي الحليفة، قال‏:‏ ‏(‏من شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجة /فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليفعل‏)‏‏.‏ فقد صرح لهم بجواز الثلاثة، وفي هذا بيان واضح لجواز العمرة في أشهر الحج‏.‏

وأيضًا، فالذين حجوا معه متمتعين كان في حجهم ما بين الجواز، فلا يجوز أن يأمر جميع من حج معه بالتحلل من إحرامه، وأن يجعلوا ذلك تمتعًا بمجرد بيان جواز ذلك، ولا ينقلهم عن الأفضل إلى المفضول، فعلم أنه إنما نقلهم إلى الأفضل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له‏:‏ عمرتنا هذه لعامنا، أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

وأيضًا، فإذا كان الكفار لم يكونوا يتمتعون، ولا يعتمرون في أشهر الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة الكفار، كان هذا من سنن الحج كما فعل في وقوفه بعرفة، ومزدلفة، فإن المشركين كانوا يعجلون الإفاضة من عرفة قبل الغروب، ويخرون الإفاضة من جَمْع إلى أن تطلع الشمس‏.‏ فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏(‏خالف هدينا هدي المشركين‏)‏‏.‏ فأخر الإفاضة من عرفة إلى أن غربت الشمس، وعجل الإفاضة من جَمْع قبل طلوع الشمس، وهذا هو السنة للمسلمين باتفاق المسلمين، فهكذا ما فعله من التمتع والفسخ إن كان قصد به مخالفة المشركين، فهذا هو السنة، وإن فعله لأنه أفضل، وهو سنة، فعلى التقديرين يكون الفسخ أفضل، اتباعًا لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، والله سبحانه أعلم‏.‏